رافق صدور "الوثيقة السياسية" لجماعة العدل والإحسان سيل من التطبيل تَوَلّته أصوات إما نابعة من أشخاص يجهلون جهلا تاما أدبيات الجماعة ومبادئها وأهدافها كما حددها المرشد المؤسس الشيخ عبد السلام ياسين، أو أصوات اعتادت على لعب دور ما سمّاه ــ ياسين ــ"الماشطة"، ويُقصد به الشخص الذي يتولى تلميع صورة الجماعة وإخفاء وجهها الاستبدادي الموغل في الهمجية. لهذا لم تتطرق تلك الأصوات، سواء في تحليلاتها لمضمون الوثيقة وخلفياتها، أو في مناقشتها لعناصر قيادية بالجماعة أثناء استضافتها لإجراء حوارات معها على هامش إصدار الوثيقة، لم تتطرق إلى طبيعة النظام السياسي كما حددته أدبيات الجماعة وكذا وضعية المعارضة داخل ما تسميه تلك الأدبيات "دولة القرآن" في مقابل "دولة السلطان". وقد كشفت محاورة بعض زعماء الجماعة مدى الجهل المطبق بأدبياتها ومشروعها السياسي والمجتمعي من طرف المحاورِين. أما الأصوات المطبّلة للجماعة فقط اعتبرت "الوثيقة السياسية" "مراجعة جذرية" لمواقف الجماعة من المشاركة السياسية من داخل مؤسسات النظام، ومن ثم استعدادها لتشكيل حزب.
جماعة انقلابية وليست إصلاحية
إن "الوثيقة السياسية" للجماعة لا تحمل إطلاقا أي مراجعة أو تغيير في المواقف أو المبادئ ؛ بل جاءت تكرس إصرار الجماعة على التغيير "الجذري" لنظام الحكم وإقامة نظام سياسي مغاير كلية للنظام الملكي. وهذا بخلاف ما ذهب إليه عدد من المحللين أو المحاوِرين من كون الوثيقة نقطة فاصلة في مسار الجماعة، لدرجة أن هؤلاء اعتقدوا وصرحوا أن الجماعة على استعداد لتشكيل حزب سياسي.
من هنا جاءت الندوة الصحافية التي عقدتها الدائرة السياسية للجماعة لتقديم "الوثيقة السياسية"، وكذا الحوارات التي أجراءها بعض أعضاء تلك الدائرة لتوضح ما التبس على المهتمين والمتابعين لشؤون الجماعة. ومما أوضحه أعضاء الدائرة السياسية:
1 ـ القبول بالديمقراطية كآلية دون خلفيتها الفلسفية والحقوقية
الذين روّجوا لقبول جماعة العدل والإحسان بالدولة المدنية/ الحديثة/الديمقراطية فقط لأن هذه المفاهيم وردت في "الوثيقة السياسية"، سرعان ما جاءهم التأكيد من أعضاء الدائرة السياسية بكون الجماعة تقبل مرحليا بالديمقراطية كآليات بينما ترفض خلفيتها الفلسفية والسياسية، أي ترفض قيم الديمقراطية (مثل المساواة، حرية الاعتقاد، حرية التعبير، التعايش، احترام الآخر، فصل المجال الديني عن المجال السياسي..). ففي حواره لبرنامج "بين قوسين" بتاريخ 7 فبراير 2024، شدد ،محمد الحمداوي، عضوم مجلس الإرشاد لجماعة العدل والإحسان على كون "الديمقراطية هي آلية .. لكن حنا شعب له هوية، شعب مسلم .. نحن باعتبارنا مسلمين كاين أمور في الدين أساسية قطعية". لهذا، يقول الحمداوي "كاين فرق بين التعبير على الآراء السياسية وعلى أمور أخرى التي لها علاقة بهوية الشعب وبالدين".
إن الجماعة، بهذا الموقف، تؤكد تمسكها بما حدده مرشدها من مبادئ وأسس تحكم العلاقة بين أعضائها وبين اليساريين والاشتراكيين والعلمانيين عموما، ومنها قراره بأن الدين ليس (قضية شخصية يتسامح بصددها المسلم مع الكافر، والتائب مع المرتد)(ص 141الشورى). ومن ثم فالجماعة لا تفصل بين حرية الاعتقاد وبين المجاهرة بالإلحاد (أما والمجاهرة بالإلحاد، والمطالبة بالحرية الفسوقية ، والحط من الإسلام ، باتت من النثر الفني في صحف الفاسقين ، ومن الكلام المتداول في مجالس الملحدين ، فمن الغفلة والغباء أن نسكت حذرا من الوقوع في إساءة الظن بالمسلمين )(ص 149 الشورى).
2 ـ أحكام الدولة الدينية تعطل قوانين الدولة المدنية
لقد بُهتت مزاعم الجماعة بكونها تريد دولة "مدنية" بقوانينها وحرياتها. إذ سارع عضو الدائرة السياسية، الحمداوي، إلى التأكيد أن "الأمور الدينية معروفة، كل ما هي مقومات الشعب المغربي راها واضحة.. بصراحة الإرث لي فيه آيات قطعية لا يحتمل تعديلا". وقد جاءت مذكرة الجماعة لتعديل مدونة الأسرة مكرسة لهذا الموقف حتى وإن كانت مصلحة المجتمع تقتضي إخضاع الأحكام الدينية للتعديل والتغيير، كما هو الحال مثلا بالنسبة لتزويج الطفلات القاصرات أو نظام التعصيب الذي تتمسك بهما الجماعة وهي التي تزعم دعمها للدولة المدنية وحقوق الإنسان. وأي تعديل لمثل هذه الأحكام، حتى وإن طالبت به غالبية الشعب المغربي، أو وافقت عليه، سيكون "خروجا عن الإسلام" وفق ما صرح به محمد الحمداوي: "إلى خرج المجتمع كلو على الإسلام .. إلى كان مسلم راه ما يمكنش يقبل يفرط في واحد القَطْعية من الدين".
3 ـ إزالة النظام الملكي شرط الجماعة وغايتها
خلال الحوارات التي أجرتها عدد من المواقع الالكترونية مع أعضاء بالدائرة السياسية للجماعة، حرص هؤلاء على إظهار جهل محاوِريهم بإستراتيجية الجماعة وأهدافها. في هذا الإطار صحح رشدي بويبري، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، خطأ فهم "الوثيقة السياسية" كالتالي: "عادة من مشكلات القراءة هو التجزيء ،ملي تتقرا الوثيقة بمنظور تجزيئي راه مشكل، بينما المسألة الأساسية بالنسبة لنا، وأفصحنا عنها في مقدمة الوثيقة ..عندما نتكلم أننا نحتاج إلى نظام سياسي قائم على شروط وأصول، ولما نتكلم على أن المدخل الأساسي لتأسيس نظام عدل وكرامة وحرية والذي سيقضي ويتجاوز هذه المرحلة البئيسة والتاريخ المظلم للاستبداد والفساد، فنحن نتكلم عن تأسيس جديد لا استمرارية في إطار ما هو واقع” . ومن ثم " هذه الوثيقة لا يجب أن تُقرأ مطلقا باعتبارها تجويدا لما هو قائم في النظام أو المطالبة بتعديل بعض الرتوشات نهائيا". نفس الهدف، وهو إزالة النظام، عبر عنه حسن بناجح كالتالي: "خاصنا نتافقو مع الفرقاء السياسيين كيفاش بغينا تكون المضامين ديال هاذ نظام الحكم: خاصو يكون نظام ينبع من إرادة شعبية، ينبع بالانتخاب.. المغرب ما فيهش الإصلاح من الداخل .. أي واحد تيحكم خاصو يكون منتخب... الوثيقة السياسية جات تنتقد هذا الوضع، تعتبر أن كل ما تعيشه البلاد من استبداد سياسي ومن فساد ومن تخلف على كافة المستويات هو نتيجة طبيعية لطبيعة كيف تَيْتَمارس نظام الحكم في المغرب، وبالتالي ما نتصوروش نهائيا أنه ممكن يكون أمل أو خطوة واحدة في الإصلاح إلى ما مدخلناش من هذه المداخل الرئيسية".
واضح أن الاعتقاد الذي ساور فئة من المهتمين بشأن جماعة العدل والإحسان، بكون الجماعة راجعت مواقفها المتمثلة في: مقاطعة النظام، عدم المشاركة من داخل مؤسساته الدستورية، عدم التصالح معه؛ هو اعتقاد مجانب للواقع ولإستراتيجية الجماعة التي لا تريد بديلا عن تغيير النظام.